شركاء في الانقلاب الثالث على التعليم العمومي
رمضان مصباح الإدريسي
الجمعة 09 دجنبر 2016 - 15:55
مبادئ أربعة للتعليم أم طرقا سيارة للأحزاب؟
فاتني أن أوضح، في الحلقة الأولى من هذه السلسلة، أن الهدف منها يتجاوز نقاش مجانية التعليم العمومي، الذي ظل مؤجلا منذ التبني الرسمي للميثاق الوطني للتربية والتكوين (أكتوبر 1999)؛ أو حتى كاستشارة حكومية خوطب بها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، فاستجاب.
الهدف يتجاوز هذا إلى محاولة وضع إطار شامل لـ"جمرة" إصلاح التعليم التي حرقت وتحرق كل الأصابع التي تتعاورها.
غطار يستدخل أهم العوامل السياسية والمعرفية والاقتصادية التي رفعت إصلاح التعليم إلى مستوى التحدي الأكبر الذي يواجه الدولة المغربية الحديثة، ويحبط أغلب مخططاتها التنموية في جميع المجالات.
انتهيت، في الحلقة الأولى، إلى وضع اليد على الجانب المغشوش – من وجهة نظري - في الأساس الذي انبنت عليه المنظومة التربوية الوطنية، التي سعى المغرب المستقل إلى إقامتها، بديلا للمنظومة التي خلفها الاستعمار الفرنسي، في بلادنا، قائمة وفي قمة دورتها الإنتاجية، بناء على مناهج وبرامج معدة بإحكام.
وقفتُ عند الانقلاب الأول المغرض على اللغة الفرنسية، الحاملة للمعرفة المدرسية- في إطار تجييش سياسي كبير مارسه حزب الاستقلال، من مركز قوة رهيبة وقتها - قبل إعداد اللغة الوطنية لتصبح حاملة لمعارف علمية، بالخصوص، اُنتِجت وتطورت بلغات أخرى..
وبعد هذا، انتقلت إلى الانقلاب الثاني المتمثل في استصفاء النخبة السياسية الحاكمة للمدرسة الوطنية الحرة - بعد نضالها (المدرسة) الوطني التربوي ضد المستعمر، خصوصا في الحواضر- لتصبح، في جوهرها الحالي، وأداها المتمنع ماديا عن الشريحة العريضة من المواطنين، الوارث للمدرسة العمومية الفرنسية (مدرسة جيل فيري العلمانية كما أضاف أحد المعلقين).
وهي بهذا تعزز دور مؤسسات التعليم الفرنسي بالمغرب- ونعرف أنها مغلقة تماما في وجه المواطنين العاديين، وإن استطاعوا الدفع - في إنتاج النخب، وتجديد المخزن السياسي والاقتصادي وفق قيم ومعايير غربية، بعيدة عما يشتغل عليه التعليم العمومي.
يستكمل خريجو هذه المؤسسات تعليمهم العالي في كبرى المدارس الفرنسية.
بناء على هذه الفسيفساء التعليمية المفكر فيها، في الوطن الواحد، نخلص إلى الحقيقة المرة الآتية؛ وهي تحاول أن تجيب عن سؤال: لماذا فشلنا في إصلاح التعليم؛ حتى والإرادة، حاليا بالخصوص، ملكية، والإنفاق ضخم؟
تتمثل هذه الحقيقة في كون المبادئ الأربعة، التي أجمعت عليها اللجنة الملكية العليا سنة 1957؛ وهي تضع إستراتيجية للتعليم المغربي، ما بعد الاستقلال: التعريب، التعميم، التوحيد، المغربة؛ لم تنزل – كلية، وعلى علاتها– إلى اليوم. (أستثني من هذا الحكم المغربة).
أو لنقل لم تشتغل هذه المبادئ تعليميا، كما تفرض المصلحة العليا للوطن – وطن الجميع –وإنما اشتغلت سياسيا، ومكنت، تدريجيا، الأحزاب – ولا تزال- من تحقيق تطلعاتها للسلطة والثروة؛ وهي تطلعات لا يقيّدها في شيء تعليم موحد، حداثي وقوي البنيان، بمخرجات ذات كفاءات عقلية ومعرفية عالية.
لو تأتت مثل هذه المخرجات لما كنا، اليوم، إزاء أحزاب، أغلبها منتهي الصلاحية؛ وكلها لا يشتهيها إلا طامع. أحزاب فارق دربها درب الوطن، وانتهى ما كان منهما. ("خالف دربك دربي وانتهى ما كان منا"، كما يقول إيليا أبو ماضي).
مبادئ صيغت خريطة طريق للتعليم، فأصبحت طرقا سيارة رباعية للأحزاب.
سنتبين، مع مقاربة الانقلاب الثالث، بعض أوجه هذه الخلاصة الباكورة، التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه تعليميا، و حتى إلى ترتيبات دولية – إن لم أقل تنبيهات – لا تشرف أحدا.
الانقلاب الثالث: هيئة للتعليم أم للسياسة؟
ورثتنا الحركة الوطنية، سواء تعلق الأمر باشتغالها السياسي النضالي، أو اشتغالها التعليمي، هيئة تعليمية أغلب عطائها في السياسة وليس التعليم.
واصلت هذه النخبة، بعد الاستقلال، تقوية نشاطها السياسي، على حساب وظيفتها الأصلية؛ خصوصا وقد تخلت المؤسسة الملكية عن قطاع التعليم لحزب الاستقلال؛ وربما فرض عليها هذا الأمر نظرا لقوة الحزب وقتها. ألم يقل الأستاذ علال الفاسي: لا يوجد في المغرب غير قوة حزب الاستقلال، وجيش التحرير، والملكية؟ إلى حد ما أصبح قطاع التعليم سياديا، لكن لفائدة حزب الاستقلال، وليس المؤسسة الملكية.
لا حقا، سيحوز هذا الحزب أغلب الإدارة التربوية، بمختلف مستوياتها؛ أما هيئة التدريس فستؤول، كلية تقريبا، للاتحاد الوطني، المنشق، لتنهي ريعا يساريا، يَعُبُّ منه الاتحاد الاشتراكي حتى الثمالة.
من هنا "دودة التفاح" التي لا تزال تنخر تعليمنا؛ حتى أصبحنا لا نكاد نفرح لغصن يانع منه، حتى يدب اليه اليَبَس.
وإليكم كيف تأسست بدايات تعليمنا على جرف هار:
أغلب أطر حزب الاستقلال، وحتى الأحزاب الأخرى، كانوا من رجال التعليم؛ وهذا طبيعي في مجتمع تحرث فيه الأمية وتحصد؛ و كثيرا ما لا ينتبه الدارسون إلى كون انشقاق الاتحاد الوطني عن حزب الاستقلال، وهو انشقاق سياسي طبعا، كان في أغلبه انشقاقا لهيئة التعليم؛ في موسم للهجرة صوب أطروحات اليسار الدولي، والفكر القومي العربي. ومن يفعلها وقتها غير النخبة المتعلمة؟ وهل تغير الوضع اليوم؟
الطابع العلمي السياسي لهذا الانشقاق واضح؛ لأنه، في النهاية، كان "حركة يسارية لكل المثقفين".
طبعا، لم يخسر حزب الاستقلال كل أطره التعليمية، وظلت شرائح التعليم الأصيل وخريجو المدارس الوطنية الحرة وفية لنهج علال الفاسي، المحافظ والمعتدل.
وبالرغم من هذا، فإن الألوان الغالبة التي تدثر بها هذا الحزب هي ألوان البادية، وألوان المقاومين والتجار والحرفيين.
تشكلت، بتاريخ 20 مارس 1963، كما نعلم، جبهة حماية المؤسسات الدستورية "الفيديك". وقد تكونت من أحزاب الحركة الشعبية، والأحرار المستقلين، والشورى والاستقلال؛ ومن والى الجبهة تقربا من الملكية، وقد استعادت قوتها.
كانت الأهداف المتوخاة منها، حسب ما صرح به أحمد رضا اكديرة، هي "تجنيد جميع قوى البلاد وراء الملك، وصيانة الدستور، وإحداث ديموقراطية حقيقية، وحماية القيم والمثل العليا التي أقرها الشعب، من خلال الدستور".
يُغفل التحليل التاريخي لهذه المرحلة، التي كانت منذورة للانفتاح على سنوات الرصاص؛ انتقاما من اليسار لـ"قميص" حكومة عبد الله إبراهيم، الذي قُد من جميع الجهات، من لدن حكومة الظل وقتها.
ورَدُّ فعل من ملكية المرحوم الحسن الثاني، التي فُرض عليها أن تدافع عن العرش المغربي؛ في مواجهة يسار الداخل والخارج.
وعليه، فهذا المصطلح السياسي – سنوات الرصاص– الذي دخل تلافيف تاريخنا الحديث، يجب أن يُفهم على أنه رصاص حقيقي متبادل. الاستعمال المجازي يشوش الفهم، ويُحمل المسؤولية كلها لطرف واحد فقط.
يُغفل هذا التحليل أن الطرف الثاني، في النزال الدموي، الذي دشنه الراحل اكديرة لم يكن غير الهيئة التعليمية الموغلة في الأداء السياسي اليميني الاستقلالي، واليساري الاشتراكي والشيوعي.
يتحدث المحللون عن التيارات السياسية المتصارعة – بمقابر مفتوحة- ويغفلون مفردات هذه التيارات؛ وهي مفردات تعليمية غالبا، يجب ألا يُغفلها البحث التعليمي، الذي يتوخى التشخيص الدقيق للداء، ليحقن القطاع المريض بنسغ الحياة والعنفوان.
دون هذا، سيظل مُصلحونا يخبِطون خَبط عشواء وسيظل "ساندروم" التعليم في المغرب جائحة وطنية كبرى.
لماذا أعتبر الانشغال السياسي لهيئة التدريس انقلابا ناجحا على التعليم العمومي؟
قبل أن ينعت المرحوم الحسن الثاني رجال التعليم – في خطاب موجه إلى الشعب – بـ"أشباه المثقفين، الذين يأخذون بيد ويخربون بالأخرى" كانت مياه سياسية كثيرة قد تدفقت تحت الجسر؛ مياه كَدِرة طبعا.
شكل إعلان الحرب هذا، من لدن الملك، وعلى عَدو، بصفته المهنية وليس السياسية، رسالة واضحة إلى الشعب المغربي مفادها أن رجال التعليم أعداء للملكية.
كانوا في أغلبهم كذلك؛ لأنهم العمود الفقري لليسار الذي لم يكن يخفي اختياراته الثورية. (بتأسيس ملكية محمد السادس لمؤسسة محمد السادس لرجال التعليم سيغلق هذا القوس، لتبنى علاقات أخرى ناسخة لما سبق).
لا داعي بعد هذا للتوقف عند تفاصيل الإضرابات والمظاهرات والاعتقالات والاختطافات، التي لا يمكن لأحد أن ينكر أن رجال التعليم كانوا في هذا كله فاعلين ومفعولا بهم.
ولا داعي لتفصيل أساليب المخزن في إعادة تشكيل المخيال الشعبي لينبذ ويحتقر ويستهزئ بذلك الذي قال فيه أمير الشعراء: "كاد المعلم أن يكون رسولا".
عاش جيلي كل هذا عيانا وإحساسا وجمرا.
وأتساءل بعد هذا، خدمة للموضوع: أين الفعل التربوي التعليمي، في كل هذا؟
التهمت السياسة كل الجهد؛ ولم يبق منه ما يقيم أود البحث التربوي، وتقويم الأداء الديداكتيكي، والتحصيل التلاميذي.
حتى الدولة تخلت عن التخطيط التربوي.
حتى الأحزاب السياسية – ومن باب أولى النقابات - التي تعرف أنها في الحقيقة أحزاب تعليمية – بحكم غلبة المنخرطين – لم تنكب على العملية التعليمية، من حيث مضامينُها ومناهجها، وخدمتها للتنمية؛ في اتجاه بلورة رؤى، وإستراتيجيات بديلة، تُضَمِّنها برامجَها؛ وتنفذها حينما يؤول اليها تدبير القطاع.
أتذكر أنني سألت برلمانيا صديقا، من حزب يساري، بمناسبة تشكيل المرحوم الحسن الثاني للجنة الإصلاح التي ترأسها الأستاذ امحمد بوستة: هل لديكم في الحزب ما تقدمونه من دراسات بن يدي اللجنة، وأنتم من أعضائها؟ أجابني بما بمعناه: لا شيء من هذا في الجبهة الاشتراكية؛ وأردف إذا كان لديك ما نقضي به فلا تبخل.. (كنت وقتها منسقا جهويا).
طبعا، لا غرابة في ممارسة هيئة التدريس للسياسة، وسعي المتميزين منها إلى احتلال الصدارة في الدولة؛ لكن هذه الممارسة تصير هدما، حينما تُهمل المهمة الأصلية، وهي ذات دور أساسي في بناء الدولة واشتغالها وتطورها.
أتقنا سياسة اليسار واليمين، لعشرات السنين، وبذلنا ما يكفي من جهد لنصطدم مع الملكية، وهي في المراحل الأولى لبناء دولة المغرب المستقل؛ فتهاوت علينا، وعلى القطاع عموما، كواكب الليل من كل فجاج السماء؛ لكي نصبح على النتيجة المفارقة والمحزنة الآتية: انهيار الأحزاب والتعليم معا. أما تغريبة الاتحاد الاشتراكي "التعليمي" فلا يتسع لها المقام الآن.
وعليه، فشركاء الانقلاب الثالث على التعليم العمومي متعددون؛ إن لم أجعل دم التعليم موزعا على الجميع.
آخر ما قرأت مطالبة رجل الدارجة نبيل عيوش بطرد السياسيين من مجلس عزيمان؛ لأنهم منافقون يعلنون ما لا يضمرون، يوقعون بيد ويلوحون، رافضين، بالأخرى.
الانقلاب الرابع: المعرفة المدرسية (يتبع)
شركاء في الانقلاب الثالث على التعليم العمومي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق